سافر الرئيس سعد الحريري الى تركيا في رحلة ستقوده الى روسيا والسعودية، وعلى أثره ترك البلد مشغولاً بالإجابة عن سؤال حول ما إذا كان اقترب فعلاً من تأييد ترشيح عون كخيار اضطراري ووحيد لإنهاء الشغور الرئاسي.وتشبّه مصادر سياسية حراك الحريري الاسبوع الماضي، بمبنى من ثلاثة ملاجئ، وكلّ واحد من هذه الملاجئ لديه اهداف تأمين حماية سياسية محدّدة، ويتضمّن خريطة طريق تعوّض فشل أيّ منهم.
الملجأ الأول له هدف مركزي وهو حماية الطائف عبر مدخل إنهاء الشغور الرئاسي ولو حتى بانتخاب عون، وحماية مشروع الاعتدال السنّي وزعامة الحريري له. لقد ثبت للحريري أنّ «جنرال الوقت» بات يعمل ضد مشروعه في لبنان، وأنّ اعتدال سنّة لبنان يستنزف أكثر سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً، مع كلّ يوم جديد يمرّ على عمر استمرار أزمة البلد.
مئة ألف شاب سنّي هاجروا من لبنان خلال السنوات الأربعة الأخيرة. صحيح أنّ تزايد الهجرة هي ظاهرة عابرة للطوائف، ولكنّ هناك توجّساً خاصاً من أنّ البيئة السنّية اللبنانية قد تعاني من هجرتين قاتلتين، الأولى هجرة شرائح الشباب منها الى الخارج، وثانيها هجرة داعش من سوريا اليها. إنّ حالة داعش تطرق أبواب لبنان، وضحيّتها الأولى الاعتدال السنّي الذي يمثّل مشروعه سعد الحريري.
يحتاج أيضاً الحريري في ظروف تراجع اهتمام العالم بلبنان، ومن ضمنه السعودية، الى لقب «دولة الرئيس»، علّ ذلك يخلق «صدمة إيجابية ما»، تلفت أعناق الدوليين والإقليميين اليه والى لبنان، ليساندوا رئاسته لحكومة مصالحة وطنية ويساندوا مشروعه كنموذج للاعتدال السنّي في المنطقة انطلاقاً من لبنان.
الملجأ الثاني مخصّص للنزول اليه في حال اصطدم مسعاه لترشيح عون بمفاجأة رفضه، كما حصل مع ترشيحه لفرنجية. وداخل هذا الملجأ توجد العدة اللازمة لتقليل خسائر فشل الإقامة في الملجأ الأول، وقوامها استخدام منطق جعجع الذي برّر فيه تفاهم معراب مع عون، والقائل إنّ هدفه بالاضافة لتوحيد الموارنة، كشف ورقة أنّ المسؤولية عن عدم انتخاب عون تقع على حزب الله الذي لا يريد رئيساً الآن.
كما يريد الحريري ضمن مسعاه للبحث عن ملاجئ تحمي لبنان وتحمي مشروعه فيه من نائبات الزمن الاقليمي المجنون، التخلّص من أثقال سياسية مجانية، وأهمها الخروج من صورة أنه رأس حربة سنّية ضد ترشيح زعيم الغالبية المارونية، فالحريري بعد زيارته الاخيرة لعون التي تلت زيارته لبنشعي، يريد القول إنّ المهم عند السنة هو إنهاء الشغور الرئاسي بغض النظر عن اسم فخامة الرئيس.
وضمن معادلة بناء ملاجئ التسويات السياسية لحماية بيئات الاعتدال في لبنان وإعادة إطلاق حيوياتها، يمكن لمسعى الحريري في حال نجاحه أن يضع حداً لشيوع «خطاب الرابية» عن أنّ المسيحيين يعانون من «الإحباط الميثاقي» في ظلّ الطائف. و بغض النظر عن أهداف عون من هذا الخطاب، فإنّ خطورته تكمن بأنه يفضي لتشجيع ثقافة الفيدرالية بين الأوساط المسيحية.
الملجأ الثالث يعد بمثابة خطة ج داخل سلة مسعاه، ويريد فحواها إظهار أنّ البديل عن حراكه الاخير بالاقتراب من عون، هو نشوء «حالة يأس لبناني عام» من انتخاب رئيس من 8 آذار، ما يؤدّي الى فتح بازار البحث مجدّداً عن رئيس وسطي.
لا شك أنّ الحريري يسعى لإنجاح الهدف الأول من مسعاه، وفحواه انتخاب عون رئيساً وفق آلية شروط بري المطالِبة بـ»رئيسٍ للسلة الكاملة» تشكّل خريطة طريق للعهد متفاهَماً عليها مسبقاً.
لكنّ بري صاغ بحذاقة مصطلحات سلته، لتجنّب استثارة حساسيات الصلاحيات الدستورية للرئيسَين الماروني والسنّي. فهو تجنّب استخدام مصطلح التفاهم على «تشكيل الحكومة»، لأنه يعني توزيعتها، وهذه صلاحية دستورية لرئيس الجمهورية ولدولة الرئيس الثالث. وبدلاً منها يستخدم مصطلح «تشكلها» التي تعني مواصفاتها الوطنية والعامة.
وما يقصده بري هو «حكومة حريرية تطبق فكرة عهد الرؤساء الماروني والسنّي والشيعي الثلاثة الأقوياء»، وليس «سلامية أو على وزنه، تطبّق فكرة عهد انتقالي ضبابي». في السلة ايضاً يوجد تفاهم على عناوين سياسية خلافية، وايضاً على قانون انتخابي جديد. وهذا الاخير قد يقبل بري بوعد لإقراره بعد انتخاب فخامة الرئيس وليس حتماً قبل ذلك.
ثلاث عقبات
الى هنا تبدو ملامح تسوية عون رئيساً، مقروءة نظرياً، ولكنها عملياً لا تزال دونها أقله ثلاث عقبات بعضها داخلي وأهمها خارجي:
العقبة الأولى تتصل بتوقيت التسوية، وذلك لجهة أنّ المزاج الدولي والإقليمي السائد الآن في المنطقة جراء أحداث حلب وانفراط عقد تفاهم كيري لافروف في سوريا، يتّجه لأن يكون أكثر فأكثر «للصدام وليس للتسويات».
وبديهي الاستنتاج بأنّ التداعيات الدولية والإقليمية الساخنة المرشحة للتعاظم والناتجة عن انهيار هدنة 9 أيلول في سوريا، ستلقي بظلّها السلبي حتماً على مسار الانفراج اللبناني.
العقبة الثانية تقع في ثنايا سؤال عما إذا كان البنتاغون له رؤيته لما يجب أن يكون عليه شكل تموضع الساحة اللبنانية داخل مشهد صراعه المرير الذي يخوضه في هذه المرحلة مع الروس والإيرانيين في سوريا.
سبب طرح هذا السؤال، يعود لما ثبت بعد غارة التحالف الدولي على دير الزور من أنّ البنتاغون تخطّى توقيع كيري على اتفاقه مع لافروف، ما يعني أنّ أوباما دخل مرحلة البطة العرجاء، وأنّ الكلمة العليا لأميركا في سوريا والساحات اللصيقة بها، هي للبنتاغون.
والسؤال: مَن هو مرشح البنتاغون لرئاسة الجمهورية أو أقله ما هي مواصفاته، سياسي، إقتصادي أم عسكري. وبنظر متابعين فإنّ الإجابة هي حتماً ليست عون. وأوّل مؤشر عملي الى ذلك هو غياب السفيرة الاميركية عن جدول السفراء الأجانب الذين طلبوا مواعيد من الحريري الاسبوع الماضي لمواكبة حراكه المستجد للاقتراب من ترشيح عون.
العقبة الثالثة داخلية وتتمثل بأنه رغم مسايرة بري وجنبلاط لفكرة اعتبار عون رئيس الضرورة لإنهاء الشغور الرئاسي، إلّا أنّ ذلك لا يشكل ضمانة كافية بأنهما لن يستمرّا حتى آخر لحظة بجسّ نبض احتمال الإتيان برئيس غيره.
ثمن التسوية
ليس واضحاً لحزب الله حتى الآن ما إذا كان الحريري دشن حراكه السياسي الأخير بغطاء من السعودية أم أنه فعل ذلك بقرار ذاتي. يهمّ حزب الله ومعه عون تلقّي إجابة شافية عن هذا السؤال.
جنرال الرابية من جهته قبل التأكد من أنّ فيتو الرياض ضد نيله الرئاسة قد أُزيل، ستظلّ يده من الحريري على قلبه. فهو لا يريد تكرار تجربة حواره السابق مع الحريري الذي انتهى باعتذار الأخير منه لأنه لم يحصل على البطاقة الخضراء السعودية.
هذه المرة يحاول عون أن يبدأ طريق تفاهمه مع الحريري من نقطة موافقة الرياض عليه، وليس العكس. أما «حارة حريك الإقليمية»، فتريد مسبقاً معرفة الأبعاد الإقليمية لهذه التسوية. وكان الحزب وجّه لفرنجية السؤال نفسه هذا عن المعنى الإقليمي لترشيح الحريري له. واعتبر محمد ظريف آنذاك أنّ ترشيح فرنجية هو مناورة سعودية لشقّ محور حزب الله السياسي في لبنان.
يعلن الحزب أنه يؤجّل إعطاء رأيه بمسعى الحريري المستجدّ، حتى يقوم الأخير بترشيح عون رسمياً. وعند ذلك فقط يضع رأيه النهائي على الطاولة. وتتوقّع مصادر متقاطعة، أنّ نصر الله قد لا يكون ميالاً للموافقة على معادلة الحريري رئيساً للحكومة بمقابل عون رئيساً للجمهورية، إلّا إذا كان ذلك تعبيراً عن «طبخة فيها ملح إقليمي» دسم أو أقله يمكن تذوّقه.
والفكرة هنا، أنّ حارة حريك في ظلّ انخراطها بالاشتباك الأممي على سوريا، باتت تعتبر أنّ قبولها بعودة «الحريري لرئاسة الحكومة» مشروط بثمن تقايض به مع طهران في المعادلة الإقليمية، وليس ثمناً تقايض به فقط في المعادلة الداخلية.
وإذا صح هذا الاستنتاج، يصبح السؤال «مَن هي الجهة الإقليمية التي ستدفع لحزب الله وطهران ثمن عودة الحريري للرئاسة». بالتأكيد ليس السعودية التي هي حسب مصدر فرنسي في وارد تأجيج الصراع مع الحزب وليس دفع أثمان تسوية معه في لبنان.
ويلوح مخرج لهذه العقدة، مفاده أن تسفر زيارة الحريري لتركيا عن «مقايضة لصالحه في لبنان»، تقوم أنقرة بتسويقها مع طهران، أو أن تؤدّي زيارته لروسيا الى «تدخل من موسكو» تستخدم به دالتها على طهرن وحارة حريك.
عدا ذلك ستكون كلفة التسوية ثقيلة على الحريري وحتى مستبعدة الحصول من منظار مصالح حزب الله الإقليمية فيها، ذلك أنّ معادلة «حلٍّ صنع في لبنان»، ستعكس بالضرورة ميزان القوى داخل لبنان.. وهو ميزان يتّسم بأنه غير متكافئ.
صحيفة الجمهورية