لبنان بخطى ثابتة على طريق العزلة! هذا ما يُمكن إستخلاصه من مراقبة التطورات الحاصلة منذ بدء الأزمة وحتى الساعة. قرار السلطات اللبنانية وقف دفع سندات اليوروبوندز أدّى إلى حرمان لبنان من مصدر أساسي من الدولارات – أي الأسواق المالية – بالإضافة إلى حرمان القطاع المصرفي من التدفقات بالعملة الصعبة وجعل كل الإعتماد على ما تبقى من إحتياطات مصرف لبنان من أجل تأمين الإستيراد. وإذا كان التوقّف عن دفع سندات اليوروبوندز قد لعب دورًا أساسيًا في عملية عزل لبنان ماليًا (أكثر قساوة من العزل السياسي)، إلا أن الفساد المُستشري أعطى الحجة القوية للمجتمع الدولي للإمتناع عن مساعدة لبنان والإكتفاء بمساعدات إنسانية بحتة مرّت عبر الجمعيات والجيش اللبناني في عملية إدانة واضحة للأداء المالي للقيمين على أمور الدولة اللبنانية. وكذلك موقف دعّم المجتمع الدولي بعدم مساعدة لبنان ماليًا أمام استسلام أهل السلطة لعمليات التهريب التي تقوم بها عصابات عابرة للطوائف والأحزاب جعلت من عملية مساعدة لبنان أمراً عبثياً غير ذي أثر في انتشال الوضع الاقتصادي من الانهيار المطرد وبالتالي فإن حصول هذا الدعم أمر شبه مستحيل بالنسبة للرأي العام الغربي.
بالطبع لخيارات لبنان السياسية دور كبير في المواجهة مع المجتمع الدولي. وإذا كانت هذه الخيارات هي حقّ للشعوب، إلا أن الخطأ الكبير الذي إرتكبه لبنان هو الذهاب إلى هذه المواجهة من دون أن يكون هناك أي تحصين للأمن الغذائي. وبالتالي سقط لبنان في الهاوية التي دفع نفسه من حافتها نتيجة غياب التخطيط الإقتصادي السليم.
نتخطى الشق السياسي (وهو ليس موضوع هذا المقال)، لنقول إن عمليات التهريب عبر الحدود شكّلت مُشكلة للصادرات اللبنانية بإتجاه الدول الخليجية، كما إن ضعف الإستثمارات الخارجية (حتى لا نقول معدومة) وهيكلية الإقتصاد جعلت لبنان يعتمد بشكل أساسي على الإستيراد مع نقطة ضعف أساسية ألا وهي نقص الدولارات! هذه الدولارات أوقفنا تدفقاتها بالخيارات السياسية والإقتصادية والمالية.
الوضع اليوم هو كالتالي: لا مساعدات من دون تشكيل حكومة والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وبدون هذا الأمر فإن لبنان يسير على طريق العزل الإقتصادي وحتى السياسي (عن طريق العقوبات).
مشاكل كثيرة تعترض تشكيل الحكومة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. وبغض النظر عن ماهية هذه الأسباب، إلا أن الأكيد أن الإستمرار على هذا الوضع، سيؤدّي إلى سير لبنان على طريق العزلة – على الطريقة الفنزولية – وهو ما سنلحظه من خلال تفلت سعر صرف الدولار في السوق السوداء مع عجز أو عدم رغبة في ضرب هذه السوق.
لكن وإذا ما وضعنا جانبًا هذا السيناريو التشاؤمي، وبفرضية تشكيل حكومة: هل يُمكن للبنان تلبية طلبات صندوق النقد الدولي الإصلاحية؟
توجّهات صندوق النقد الدولي
إخفاقات البلدان النامية وبلدان العالم الثالث في وضع وتطبيق إستراتيجيات تنمية مستقلة والتي كشفت عنها «أزمة الديون» في ثمانينيات القرن الماضي، فرضت على المجتمع الدولي خصوصًا المؤسسات المالية الدولية – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – القيام بمبادرات لمساعدة هذه الدول على التغلب على العوائق الهيكلية في إقتصاداتها مما يسمح لها بسداد ديونها. على هذا الصعيد، فرضت هذه المؤسسات شروط إصلاحية بهدف إعطاء قروض لهذه الدول لمساعدتها على الخروج من أزاماتها وهو ما يُسمّى بـ «سياسات التكيف الهيكلي» (structural adjustment policies). هذه السياسات هي عبارة عن إجراءات دورية أقرها صندوق النقد الدولي وذلك لضمان سداد القروض، وهو ما يُعرف بالإستقرار.
قبل أزمة الديون، كانت هذه الإجراءات ضرورية لتأمين سداد الديون، وأصبحت تدريجيًا نموذجًا حقيقيًا للتطور الليبرالي ويتم تطبيقه على أي اقتصاد «متخلّف» بتعارض كامل مع طروحات الإصلاحات البنيوية، وهو ما يتماشى مع طروحات نموذج Rostow الذي يُعد أحد أكثر نظريات التنمية تأثيرًا في القرن العشرين. روستو، المناهض للشيوعية والعضو في إدارة الرئيس كينيدي، روج لنظريته في إطار السياسة الخارجية للولايات المتحدة حيث يوضح رغبته ليس فقط في مساعدة البلدان منخفضة الدخل في عملية التنمية، ولكن أيضًا لتأكيد فوقية تأثير الولايات المتحدة على تأثير روسيا الشيوعية.
أزمة الديون والإنتقادات التي طالت هذه الإجراءات، فرضت تغييرًا في سياسية المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد حيث شكّلت «برامج التكيف الهيكلي» تغييراً واضحاً في الدور الذي لعبه الصندوق في ثمانينيات القرن الماضي. وبالتالي أصبحت برامج التكيف الهيكلي للصندوق هي ضمان للإستقرار المالي العالمي كما هو منصوص عليه في قوانينه الأساسية لعام 1944 («الاستقرار») ، حيث حدد الصندوق لنفسه هدف ضمان خروج البلدان النامية من التخلف وذلك عبر تطبيق إجراءات هيكلية تعدل بشكل عميق التنظيم الاقتصادي لهذه البلدان («التكيف»).
وتستند هذه السياسات على مبدأين أساسيين يعتمدهما الصندوق في تحليله لواقع الدول النامية: الأول دور الدولة القوي (غياب سياسات السوق) في الإقتصاد والذي يُعتبر السبب الأساسي في فشل السياسات التنموية، والثاني قلّة الإنفتاح على التجارة الدولية مع ما لذلك من خسائر فادحة ناتجة عن إستقطاب الرساميل والتكنولوجية إلى هذه الدول. من هنا ضرورة إعتماد تدابير هيكلية لتعزيز تنمية الاقتصادات المتخلفة وهي جزء من الـ Washington consensus.
فما هي تحضيرات أهل النخبة تجاه هذه السياسات؟
إجماع واشنطن
تعود عبارة «إجماع واشنطن» إلى الإقتصادي الأميركي James Williamson الذي إستخدمها لوصف مجموعة الإجراءات الهيكلية التي يشترطها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل مُساعدة البلدان النامية. هذه الإجراءات التي تحوي على ثلاثة مبادئ (التحرير، والخصخصة، وإلغاء الضوابط) يُمكن تلخصيها في الإجراءات التالية:
أولاً – القيام بإجراءات مالية للوصول إلى عجز موازنة أقلّ من ٢٪ من الناتج المحلّي الإجمالي؛
ثانيًا – توجيه الإنفاق العام نحو الأنشطة التي تعد مصادراً للعوامل الإيجابية مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية؛
ثالثًا – خفض الضرائب وذلك بهدف إستقطاب الإستثمارات وتخفيف العبء عن المقيمين مع ضرورة الدوزنة مع البند الأول؛
رابعًا – ترك السوق يُحدّد أسعار الفائدة بحسب مبدأ العرض والطلب وبالتالي منع أي تدخل من خارج آليات السوق؛
خامسًا – إعتماد سعر صرف حرّ أو مرن في أقل تدبير وترك السوق يُحدّد هذا السعر بحسب آلية العرض والطلب؛
سادسًا – إزالة كل الإجراءات الحمائية والتي تُشكّل عائقاً أمام التبادل التجاري العالمي؛
سابعًا – الانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر بهدف تعظيم حجم الإقتصاد وزيادة الرخاء للمواطن؛
ثامنًا – إعتماد الخصخصة وذلك بهدف تقليص عجز الموازنة وزيادة الثقة آليات السوق؛
تاسعًا – تحرير السوق بالكامل من أية قيود وتشكيل هيئات ناظمة قطاعية لتأمين هذه الغاية؛
عاشرًا – ضمان حقوق الملكية الخاصة وهو أمر حيوي بالنسبة لكل النقاط السابقة.
وتهدف هذه الإجراءات إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
الهدف الأول: فتح البلد – موضوع المساعدة – أمام التجارة الدولية من خلال تعزيز الصادرات وتسهيل الإستثمار الأجنبي المباشر؛
الهدف الثاني: وضع سياسة نقدية (Monetarism) لسعر الفائدة وذلك من خلال بنك مركزي مستقل وموثوق، ومحاربة التضخم المالي. الجدير ذكره أن الـ Monetarism هي مدرسة من مدارس الفكر الاقتصادي ذي إلهام نيوليبرالي، تروج لمفهوم محايد للمال وتؤيد انسحاب الدولة من المجال الاقتصادي بحكم أن السلطة العامة لا يمكنها أن تؤثر بشكل إيجابي على النظام الاقتصادي على المدى الطويل.
الهدف الثالث: إستبدال التنظيم العام بتنظيم السوق من خلال إعتماد آليات السوق (حوافز بأسعار السوق والخصخصة).
وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن هذه الشروط مبنية على التسليم بأن الوضع الاقتصادي في هذه البلدان يتميز بأمرين:
الأول هو طلب الدولة الصادق في الخروج من الأزمة؛
وجود دولة فاعلة ذات نظرة مستقبلية قادرة على تطبيق القوانين وبسط سيطرتها على رعاياها تحت مظلة قوانين نافذة وعادلة.
إنتقادات سياسات الصندوق
أظهرت التجارب أن سياسات صندوق النقد الدولي نجحت بشكل كبير في الدول النامية المُتقدّمة في مجال الإنماء والتي تملك مؤسسات سياسية وإجتماعية ثابتة. الأمثلة الناجحة عديدة ومنها الدول الأسيوية. في المقابل فشلت هذه السياسات في الدول الأكثر فقرًا حيث تم إضعاف الدولة وتفشي المافيات وتفقير الشعوب على مثال تايلندا. وقد أدى الإنفتاح العالمي لهذه الدول إلى تسهيل إنتقال الأزمات المالية على مثال الأزمة الأسيوية في العام ١٩٩٧. على هذا الصعيد قال الإقتصادي الأميركي Joseph Stiglitz أن هذا «العلاج بالصدمة» لبرامج التكيف الهيكلي، المفروض على جميع البلدان بغض النظر عن هياكلها الاقتصادية والاجتماعية، محكوم عليه بالفشل.
الأطر الجديدة للصندوق
الإنتقادات الأكثر شيوعًا للتكيف الهيكلي كان حول عدم أخذه بعين الإعتبار الهيكليات الداخلية للدول النامية. وهو ما فرض توجهين يتوجب إعتمادهما من قبل المؤسسات الدولية في إطار دعمها للدول النامية:
التوجه الأول – هو توجه نيوكلاسيكي ينص على الدور المحوري للمؤسسات القضائية في خفض كلفة التعاملات وزيادة التبادل التجاري. وبالتالي فإن فشل سياسات التكييف نابع من غياب المؤسسات القضائية. من هنا أضاف إجماع واشنطن الحوكمة الرشيدة من بين التدابير والتي تطال ليس فقط القطاع العام ولكن أيضًا القطاع الخاص وبالتحديد الشركات، وطالب بتحرير سوق العمل وإحترام قوانين التجارة العالمية.
التوجّه الثاني – وهو توجه نيو-كنيزي ينص على أن آليات السوق تمنع المنافسة المطلقة وبالتالي يتوجّب توسيع مفهوم الإنماء على أبعاد ثانية مثل الثقافية، والديموقراطية، والتربية، والصحة، وخفض عدم المساواة. أيضًا ينصّ هذا التوجّه على محاربة التضخّم من خلال تنظيم عالمي للنظام المالي ومكافحة الأزمات المالية. ويرفض هذا التوجّه مقولة فوائد التجارة الدولية، كما ومبدأ الخصخصة.
على كل الأحوال، لا يُمكن للحكومة التوجّه إلى مفاوضات مع صندوق النقد الدولي إذا لم تكن مُتمكنة من الملف لأن العواقب ستكون وخيمة على الأمد الطويل سواء من ناحية نتيجة التطبيق أو من ناحية عدم القدرة على التطبيق.
إعادة رسم الخارطة الإقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط
في الوقت الذي يعيش لبنان أزمته الكيانية، تقوم الدول العظمى بالتعاون مع دول إقليمية بعملية إعادة ترسيم للنفوذ الإقتصادي في المنطقة. والمُلفت بالأمر أن هذا الأمر يتمّ من دون مُشاركة الدولة اللبنانية! نعم من دون مشاركة الدولة اللبنانية التي تضع مجهودها في حل الخلافات السياسية من دون جدوى عملية.
لبنان القابع على ثروتين طبيعيتين أقلّه، الماء والغاز، لا يستفيد من هذه الثروات. وبالتالي وفي ظل غياب رؤية واضحة وإستراتيجية مدروسة لما سيكون لبنان عليه في ظل إستخراج الغاز والإستفادة من الثروة المائية، هناك إحتمال كبير أن تفرض الدول الكبرى كلمتها في إدارة هذين الملفين. أضف إلى ذلك أن غياب الرؤية عن كيفية إعادة هيكلة مؤسسات الدولة والمرافق العامة والإقتصاد بالتوازي مع غياب أي قدرات مالية، هناك إحتمال فرض عقود خارجية على لبنان من دون أن يكون له إمكانية الرفض لهذه العقود بحكم الوضع الإقتصادي المأساوي الذي يعيشه لبنان.
في الواقع، الفراغ الحكومي له تداعيات سلبية أكبر بكثير مما هو مطروح على الرأي العام. فالتأخير في التشكيل يُخسّر لبنان قدرة فرض خيارته التي تصّب في مصلحة مواطنيه وفي مصلحة الأجيال المُستقبلية. وكان الأجدى صب المجهود الهائل على وضع إستراتيجيات إقتصادية خلاقة ومبدعة بدل الصراع على المناصب السياسية التي تُضعف لبنان سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي وتفتح الباب واسعاً لعصابات المافيات للعبث بأموال وآمال المواطن اللبناني من دون محاسبة لتتخلّى بذلك الدولة عن دورها بحماية المواطن وإدارة شؤونه، فتصير شاهدة على هدم هيكل برمته على رأس جميع ساكنيه.