الرئيسية / صحف ومقالات / الديار: التعديلات في الخطّة الحكومية على نار حامية مع مجيء «لازارد» إلى بيروت..من دولة غنية إلى دولة فقيرة… طريق لبنان معبد بالمخاطر والتحديات..التجار يحققون أرباحاً طائلة… و«حماية المستهلك» غائبة… ولا سجلات أرباح
الديار لوغو0

الديار: التعديلات في الخطّة الحكومية على نار حامية مع مجيء «لازارد» إلى بيروت..من دولة غنية إلى دولة فقيرة… طريق لبنان معبد بالمخاطر والتحديات..التجار يحققون أرباحاً طائلة… و«حماية المستهلك» غائبة… ولا سجلات أرباح

التحدّيات التي تواجه الحكومة اللبنانية سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد الإقتصادي أظهرت ضعف قدّرة الحكومة على مواجهتها. سياسيًا، فرض طرح البطريرك الماروني ما بشارة بطرس الراعي في ما يخص الحياد تحدياً إضافياً للحكومة التي صبحت في مكان ما «متفرّجة» أكثر منه «فاعلة» وذلك على الرغم من زيارة الرئيس حسان دياب إلى الديمان للقاء البطريرك الماروني. أمّا إقتصاديًا فقد شكّلت خطوة وزير الخارجية التفاوض على «إستثناءات لقانون قيصر خطوة مُلفتة وإيجابية في مقابل تصدّع وتراجع على صعيد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

 

التعقيدات التي تواجه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتي تنبع من مبدأ عدم التوافق الداخلي على الخطة الحكومية، فرضت تعديلها وهو ما سيكون موضوع زيارة وفد شركة لازارد هذا الأسبوع إلى بيروت حيث من المفروض البحث في ثلاث نقاط أساسية: حجم الخسائر خصوصًا بعد تقرير لجنة المال والموازنة، توزيع الخسائر بشكل عادل، والشق الإصلاحي. وإذا كان من المتوقّع أن تتجه الأمور إلى الإنفراج على هذا الصعيد بعد هذه التعديلات وبعد قيام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتشكيل لجنة تدرس إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تبقى الترجمة العملية لهذا الإنفراج رهن التطورات السياسية التي تُلقي بثقلها على الواقع الإقتصادي المالي النقدي.

 

بالتزامن مع هذه التطورات، يعيش المواطن اللبناني، في ظل غياب لدائرة حماية المستهلك، على لهيب الدولار الأميركي الذي يحوّله التجار إلى أرباح طائلة غير مسجّلة في دفاترهم تهرّبًا من دفع الضرائب وذلك من خلال ممارسة لعبة الإحتكار والـ «cost replacement».

 

هذه المشاكل لا يُمكن تخطّيها إلا بتعديل جذري بالنموذج اللبناني ليُحاكي الإنسان والتطورات العصرية.

 

  لشتنشتاين

 

كريستوف زيلير، الملياردير الوحيد في اللشتنشتاين يمتلك ثروة بقيمة 1.3 مليار دولار أميركي (جريدة لوموند الفرنسية) وهي ثروة توازي نصف الناتج المحلّي الإجمالي لدولة اللشتنشتاين البالغة 6.2 مليار دولار أميركي. في المقابل يبلغ الدخل الفردي للمواطن في هذا البلد 211 ألف دولار أميركي مُحتلا بذلك المرتبة الثانية عالميًا بعد إمارة موناكو.

 

اللشتنشناين هي إمارة موجودة في أوروبا بين النمسا وسويسرا وتبلغ مساحتها 160 كلماً مربّعاً مع عدد سكان لا يتجاوز الـ 40 ألف شخص. وتتمتع هذه الإمارة بميزات تجعلها من الدول الفريدة من نوعها مع إقتصاد حرّ مركّز على الصناعة بالدرجة الأولى (40% من الناتج المحلّي الإجمالي) تليه الخدمات المالية (30%)، قطاع الخدمات من دون الخدمات المالية (52%)، الأبحاث (7%) والزراعة (5%). هذه الهيكلية جعلت عدد الشركات المُسجّلة في اللشتنشتاين (أكثر من 80 ألف شركة) يفوق عدد سكانها! والبحث عن الأسباب التي تجعل من الشركات تتهافت على هذا البلد القوانين المرنة ولكن أيضًا نظام الضرائب الذي لا يتعدّى الـ 20% في أحسن الأحوال على الشركات وضريبة على الدخل الفردي لا تتعدّى الـ 1.2%!

 

السريّة المصرفية ومتانة القطاع المصرفي والضرائب المُنخفضة تجعل من هذا البلد ملاذ آمناً للراسميل التي تتهافت بشكل كبير على البلد وتجعل من كل السكان يستفيدون من الإستثمارات مع فرص عمل هائلة لبلد بهذا الحجم الصغير.

 

 زيمبابوي

 

في المقابل تعيش زيمبابوي (الموجودة في جنوب القارة الأفريقية) حالة من عدم الثبات السياسي والعسكري الذي يجعل المواطن في هذا البلد يعيش أسوأ ظروف إجتماعية في العالم. تمتلك زيمبابوي ثروات هائلة من البلاتين، النيكل، الألماس… وكانت حتى فترة طويلة جدًا تُعدّ خزان القمح في جنوب القارة الأفريقية. تبلغ مساحة زيمبابوي  391 الف كم مربّع وعدد سكانها 15 مليون نسمة مع ناتج محلّي إجمالي بقيمة 20 مليار دولار أميركي (2019) بعد أن بلغ 4.4 مليار دولار في العام 2008.

 

إدارة الرئيس السابق روبير موغابي، جعلت مداخيل الموارد الطبيعية للمواطنين تذهب إلى الجيوب الخاصة لبعض الأشخاص مع إستنسابية في التعاطي مع الشركات التي ترزح تحت ضرائب هائلة كانت تذهب لسدّ إنفاق الموازنة البالغ 30% من الناتج المحلّي الإجمالي (50% في لبنان!). هذا الأمر جعل الإستثمارات الأجنبية تغيب خصوصًا أن زيمبابوي دخلت حربًا ضروسه مع الكونغو مما دفع أكثر من 3 ملايين مواطن إلى الهجرة من المجاعة والحرب. على الصعيد الزراعي، سيطر السكان البيض على المزارع لتعود الحكومة وتُصادر هذه المزارع لاحقًا.

 

في العام 2002، فرضت الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي عقوبات على زيبمابوي وقامت الصين بإستخدام الإستعمار الإقتصادي لمساعدة زيمبابوي حيث ضخّت أموالا في البلد تعود عائداتها بالدرجة الأولى للصين مع إكتفاء المواطن بدخل أقل من 1500 دولار أميركي سنويًا!

 

في العام 2007 إلى العام 2008، قامت الحكومة بطبع العمّلة بشكل كثيف حتى بلغ التضخّم 241 ألف بالمئة! وإضطرّ المصرف المركزي أنذاك إلى إستخدام ورقة الـ 100 تريليون دولار زيمبابوي ليُعاود بعد ذلك إصدار عملة جديدة في العام 2009 على شكل أوراق سندات. في العام 2008، كان الدخل الفردي في زيمبابوي يوازي 350 دولاراً أميركياً ليرتفع إلى 1300 دولار أميركي في العام 2019 وعلى الرغم من ذلك ما يُميّز الإقتصاد الزيمبابوي اليوم هو التضخمّ واللاعدالة في توزيع الثروات.

 

بلغ الناتج المحلّي الإجمالي في زيمبابوي في العام 8.53 1997 مليار دولار أميركي، لكن دخول زيمبابوي في صراعات عسكرية والتخبّط السياسي والعقوبات الدولية جعل الناتج المحلّي الإجمالي ينخفض إلى النصف في العام 2008. وشهد البلد حركة هجرة كبيرة بلغت 3 مليون شخص على 15 مليون نسمة إجمالي السكان. وقدّ أدّت العقوبات على هذا البلد، على الرغم من الإستثمارات الصينية وعلى الرغم من إرتفاع الدخل الفردي إلى 1300 دولار أميركي، إلى إفقار المواطن الذي يرزح تحت تضخّم لم يعد من السهل السيطرة عليه على الرغم من إرتفاع الصادرات من المواد الأولية.

 

 لبنان

 

ما يحدث في لبنان حاليًا من تطورات سياسية وإقتصادية شبيه إلى حدٍ بعيد بما حصل في زيبمابوي في العام 1997 (بالطبع لا نُقارن القدرات الإقتصادية ولا الإطار السياسي بل التطورات). سوء إدارة الأزمة اللبنانية قدّ يوصل إلى إتباع لبنان نموذج زيبمابوي. فالتضييق الدولي (خصوصًا الأميركي) على قدوم الدولارات وخطر وقوع لبنان تحت العقوبات يجعل من التضخّم المُفرط مسيرة طويلة من التفقير الذي قد يطال المواطن اللبناني، وهي مسيرة قد تطول في حال قامت الصين بالإستثمار في لبنان. الجدير ذكره أن الصين هي الشريك الإقتصادي الأول للبنان مع 11.2% حجم إستيراد لبنان من الصين، وهذا الأمر لا مُشكلة عليه. إلا أن المُشكلة تظهر مع بدء الصين علمية الإستثمار في لبنان حيث سيُصبح لبنان في هذه الحالة حلبة الصراع الأميركية الصينية كما هي حال زيمبابوي. وما نسبة التضخّم التي وصل إليها الإقتصاد في زيبمابوي (241000%) إلا مثالاً على ما قد يصل إليه الوضع في لبنان في حال تأزمت الأمور.

 

 فساد، تضخّم، توزيع غير عادل للثروات

 

1% من الشعب اللبناني يستأثر بـ 25% من الدخل القومي ويمتلك أكثر من 40% من الثروة الوطنية. هذا الواقع يجعل لبنان يحتل المراتب الأولى بين الدول حيث لا عدالة إجتماعية ولا توزيع عادل للثروات. بالطبع لا يجب فهم الأمر على أنه يتوجّب أخذ أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، بل يجب أن يكون توزيع الدخل القومي عادلاً يسمح بإعطاء الشخص حقوقه بحسب مساهمته في اللعبة الإقتصادية من خلال الأجور ولكن أيضًا من خلال خلق فرص إستثمارية للأفراد. كيف يُعقل أن بلداً مثل اللشتنشتاين فيه توزيع عادل للثروات في حين أنه في لبنان هذا الأمر غير مُمكن؟ هل أصبح النموذج الزيبمابوي هو المثال للبنان حيث هناك أقلّية تتنعّم بثروات البلد؟ النظرية الإقتصادية تنصّ على أن توزيع واسع للدخلّ القومي يُساهم في زيادة هذا الدخل بمعدّلات كبيرة. وبالتالي هناك مصلحة للجميع في توزيع عادل للدخل عملا بمبدأ أن الإستهلاك الناتج عن هذا الدخل يسمح بتشغيل أوسع للماكينة الإقتصادية.

 

أكثر من عشرة مليارات دولار أميركي حجم الفساد في لبنان! إذ يكفي النظر إلى ما يحصل في القطاعات العامّة كافة لمعرفة هول الكارثة. لن ندخل في ما يحصل في القطاع العام من توظيفات، أو في الكهرباء أو الجمارك أو الإتصالات… نظرًا إلى أن القارئ أصبح يعرف الكثير، بل سنُسلطّ الضوء على الإحتكار الذي يجد منبعه في الفساد وبالتالي يحرم الإقتصاد من فرص هائلة كانت لتُعود بالمنفعة على الجميع حتى على الفاسدين.

 

الإحتكار الذي يُمارس حاليًا في لبنان هو نتاج الحماية التي يؤمّنها أصحاب النفوذ للمحتكرين بهدف الإستفادة من الأرباح التي يُحقّقونها. هذا الإحتكار له تداعيات كبيرة على هيكلية الإقتصاد الذي تحوّل بفعل هذا الإحتكار إلى إقتصاد إستيرادي بالدرجة الأولى وحتى الصناعات المحلّية لا يُمكن منافستها نظرًا للحماية المؤمّنة لهذه الصناعات من أصحاب النفوذ. كل هذا بسبب الفساد المُستشري والذي يسبب بتركيز الثروات وبالتالي زيادة الفقر وتراجع الناتج المحلّي نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي الممكن تحقيقه!

 

وماذا نقول عن التضخّم المفرط الذي يعيشه لبنان منذ بدء الأزمة في تشرين الأول من العام الماضي. هذا التضخّم الذي وصل إلى مستويات أصبح معها الأمن الغذائي للمواطن في خطر حقيقي ويُنذر بكوارث إجتماعية، كانت أسبابه الأساسية جشع التجار ليُضاف إليه لاحقًا (بعد التوقف عن دفع سندات الخزينة) طبع العمّلة.

 

على هذا الصعيد، تنصّ النظرية الإقتصادية بمفهومها الواسع (إقتصاد – اجتماع – بيئة) على أن التضخّم هو العدو الأول للأمن الإجتماعي ويزيد من نسب الفقر خصوصًا الفقر المُدّقع. لكن الأسوأ في هذا الإطار يبقى الخوف من إختفاء الطبقة الوسطى التي تُشكّل أساس المجتمعات! في حال حصول هذا الأمر، يُصبح لبنان مثل زيمبابوي من ناحية تركيبته الإجتماعية – الإقتصادية!

 

 إعادة تموّضع

 

من كل ما تقدّم نرى أن على لبنان الإختيار بين نموذج لشتنشتاين أو نموذج زيمبابوي. الخيار الأخير سهل ويكفي عدم القيام بأي إجراء وسنصل إليه في وقت قليل، أما الأول فهو نموذج يتطلّب الكثير من العمل لكن نتائجه مضمونة.

 

كم من الخبراء يقولون إن لبنان لا يصلح للصناعة أو الزراعة بحكم أن مساحته صغيرة؟ في الواقع 40% من الناتج المحلّي الإجمالي للشتنشتاين هو من الصناعة و5% من الزراعة لبلد مساحته 160كم مربع!! أيضًا كم من الخبراء كانوا يقولون إن قوّة لبنان في قطاعه المصرفي؟ وعلى الرغم من ذلك كان يُمكن للبنان الذهاب أبعد من ذلك عبر رفع مساهمة مداخيل هذا القطاع في الناتج المحلّي الإجمالي.

 

الفارق الأساسي بين اللشتنشتاين ولبنان أن اللشتنشتاين تتمتع بقوانين شاملة ومرنة وتتشدّد في تطبيقها في حين أنه في لبنان هناك أكثر من 50 قانوناً غير مُطبّق! أيضًا يتميّز اللشتنشتاين بشفافية في تطبيق قوانينه وهو أمر نفتقده في لبنان. وقد يقول البعض أن اللشتنشتاين مُتهم بتبييض الأموال ويستفيد من سـريته المصرفية، إلا أن معرفة أن مساهمة القطاع المالي هي 30% من الناتج المحـلّي الإجمـالي تضّـحد هذا القـول.

 

من هنا نرى أن هناك ضرورة للقيام بإصلاحات تعيد تموضع السياسات الإقتصادية للحكومة ليكون محورها الإنسان بالدرجة الأولى. وبالتالي هناك سلّة من الإصلاحات التي تنتج عن إعادة التموضع هذه وعلى رأسها تطبيق القوانين، المحاسبة، الشفافية، محاربة الفساد، محاربة الإحتكار، قوانين عصرية مرنة، خطط إقتصادية تدعم المبادرة الفردية وتؤمّن البنى التحتية اللازمة… ويبقى الأهمّ ضرب هيمنة الحسابات السياسية على القرارات الإقتصادية.

 

مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد! هذا هو حال الحكومة اليوم التي تخضع لضغوطات كبيرة سواء من الداخل أو الخارج. المطلوب هو التركيز على المواطن اللبناني، على لقمة عيشه، على صحته، طبابته، تعليمه، عمله… نعم هذا هو المطلوب وكل الضغوطات سواء كانت سياسية أو غير سياسية ستختفي عندما تضع الحكومة المواطن كأولوية في سياساتها الإقتصادية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *