الرئيسية / صحف ومقالات / الأخبار : مصرف لبنان يسرق الودائع
الاخبار

الأخبار : مصرف لبنان يسرق الودائع

إذا تجسّد الخبث في مؤسسة ما، فسيكون مصرف لبنان. يعمل بلا محاسبة؛ يخلق كتلاً نقدية تزيد التضخم، ويحرّر ‏سعر صرف الليرة “على ذوقه” ليأكل المزيد من مداخيل الأسر المتوسطة والفقيرة، ثم يمنع عن المودعين دولاراتهم. ‏أحدث فصول هذا المسار، تعميم أصدره أمس الحاكم رياض سلامة، لا يكتفي بتكريس القيود التي تمارسها المصارف ‏استنسابياً على عمليات السحب، بل يوسّعها لإتاحة المجال أمام المصارف لتسديد السحوبات الشهرية بالليرة وبسعر ‏السوق الذي تحدّده بالتعاون مع مصرف لبنان والصرافين. هذا الفعل يترجم كالآتي: مصرف لبنان يشطب خسائره ‏بودائع الناس ويدفّعهم ثمن التضخّم‎.‎

ثمة فكرة راسخة عند حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأن الخسائر المتراكمة في ميزانيته بالعملات الأجنبية، والتي ‏حدّدتها اللجنة الحكومية والمستشار المالي “لازار” بقيمة 42.8 مليار دولار، يمكن ردمها عبر سلسلة تعاميم يجري ‏تطبيقها لسنوات. هذه التعاميم تستهدف جذب الدولارات الآتية من الخارج لتغذية أصول مصرف لبنان بالعملات ‏الأجنبية، وإطفاء الدولارات السابقة المتراكمة كخسائر في التزاماته. لا يهمّ حاكم المصرف رياض سلامة من يدفع ‏الثمن طالما أنه لا يزال خارج المساءلة. ولا يهمه أن التضخّم المقدّر بنحو 27% قد يصبح أكبر بكثير ليأكل مداخيل ‏الأسر ويدفع المزيد منها نحو خطوط الفقر والبطالة والهجرة. ولا يهمه أن يتجاوز سعر صرف الليرة في السوق ‏الفعلية، أي السوق السوداء 3 آلاف ليرة أو 4 آلاف ليرة أو 5 آلاف ليرة أو ربما أكثر… ما يهمه إطفاء الخسائر على ‏حساب الناس‎.

هذا المسار واضح في التعاميم الأخيرة الصادرة عن الحاكم منفرداً بغياب مجلس مركزي. فالتعميم الأخير يتيح ‏للمصارف إعطاء الزبون خيار سحب دولاراته وفق القيود الاستنسابية وبالليرة اللبنانية حصراً وبسعر السوق المحدّد ‏من المصارف ومصرف لبنان! والتعميم الذي سبقه يمنع المؤسسات المالية غير المصرفية التي تستقبل تحويلات ‏إلكترونية من أن تدفع بالدولار، بل عليها أن تدفع بالليرة، وبسعر السوق نفسه. وقبلها أتيح للمصارف إغلاق الحسابات ‏التي تقل عن 5 ملايين أو 3 آلاف دولار بسعر السوق نفسه. من سمح لهذا “الزبون” الذي أنفق 42.8 مليار دولار من ‏أموال الناس بأن يحدّد معايير سعر السوق، وأن يضرب سلامة النقد خلافاً للمادة 70 من قانون النقد والتسليف من أجل ‏حماية المصارف؟‎

تكريس القيود وتشديدها‎
أمس، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً يحمل الرقم 13221 بعنوان “إجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من ‏الحسابات بالعملات الأجنبية”. وينصّ التعميم على أنه “في حال طلب أي عميل لا يستفيد من أحكام القرار الأساسي ‏الرقم 13215 تاريخ 3/4/2020 إجراء أي سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة له ‏بالدولار الأميركي أو بغيرها من العملات الأجنبية، على المصارف العاملة في لبنان، شرط موافقة العميل المعني، أن ‏تقوم بتسديد ما يوازي قيمتها بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق، وذلك استناداً إلى الإجراءات والحدود المعتمدة لدى ‏المصرف المعني… وعلى المصرف المعني أن يبيع من مصرف لبنان العملات الأجنبية الناتجة عن العمليات المشار ‏إليها”. ويضيف: “تبقى سائر العمليات بالدولار الأميركي التي تقوم بها المصارف مع عملائها خاضعة للسعر الذي ‏يحدّده مصرف لبنان في تعامله مع المصارف‎”.

من يصيب التعميم؟ وما هي أهدافه؟ يصاب بهذا التعميم أصحاب الودائع بالدولار الذين يسحبون دولارات نقدية من ‏كونتوارات المصارف وفق قيود وضوابط غير قانونية وغير شرعية أتاحت للمصارف تحديد حجم السحوبات اليومية ‏والأسبوعية والشهرية للمودعين. لعلّ أغلب المودعين غير مسموح لهم بسحب أكثر من 1000 دولار شهرياً مهما ‏كانت أرصدة حساباتهم. كما لا يمكن أي مودع إجراء أي عملية تحويل إلى الخارج حتى لو كانت مبرّرة. هنا المصرف ‏يستنسب. ورغم الكثير من القرارات القضائية الشجاعة التي فرضت على المصارف وقف هذه القيود، إلا أن عمليات ‏استئناف القرارات تأخذ وقتاً يوحي بأن هناك قضاة متواطئين مع المصارف‎.

في النتيجة، الذين يسحبون الجزء اليسير من أموالهم بالدولار النقدي، باتت خياراتهم بعد هذا التعميم محدودة: أن يمن ‏عليهم المصرف بإعطائهم بعضاً من دولاراتهم نقداً، أو يبلغهم عدم توافر الدولارات النقدية لكن يمكنهم الاستفادة من ‏هذا التعميم. عملياً، المصارف كلّها، ومع الوقت، ستوقف ضخّ الدولارات النقدية (هناك عدد كبير من المصارف أوقف ‏تسديد الدولارات النقدية أصلاً) ولن تترك الخيار للمودعين سوى سحب ليرات بسعر السوق. من يحدّد سعر السوق؟ ‏إنها المصارف بالتنسيق مع الصرافين ومصرف لبنان‎!

العصابة تقرر بالغطاء نفسه‎
إذاً، العصابة نفسها ستأخذ كل القرارات. الغطاء السياسي هو عنصر غير ملحوظ في العصابة. فلن يكون هناك من ‏يحاسب المصارف أو مصرف لبنان. لن يكون هناك من يوقف التنكيل بالمودعين. ولن يكون هناك من يوقف خرق ‏القوانين. فهذا التعميم يعني أن مصرف لبنان يضرب سلامة النقد اللبناني المنصوص عليها في المادة 70 من قانون ‏النقد والتسليف، من أجل فرض خيار سحب الودائع بالليرة وبسعر بخس، بعد التنسيق مع جمعية المصارف. كيف ‏ذلك؟ التعميم يستند إلى المادتين 70 و174 من قانون النقد والتسليف. الأولى تشير إلى أن مهمة مصرف لبنان هي: ‏‏”المحافظة على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام ‏المصرفي، تطوير السوق النقدية والمالية‎”.‎

والثانية تنص على أن “للمصرف المركزي، خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان، أن يضع ‏التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها. كما أن له أن يحدّد ويعدّل كلما ‏رأى ذلك ضرورياً، قواعد تسيير العمل التي على المصارف ان تتقيد بها حفاظاً على حالة سيولتها وملاءتها‎”.

التعميم يضرب “سلامة النقد اللبناني”. هذا يعني أن مصرف لبنان والمصارف اتفقا على ضرب سعر صرف ‏الليرة من أجل تنظيم العلاقة بين المصارف ومودعيها. كيف كانت هذه العلاقة أصلاً في الأشهر الأخيرة؟ كانت ‏علاقة السالب بالمسلوب. فالمصارف حجزت ودائع الناس وضعت، وبشكل استنسابي وعشوائي، قيوداً وضوابط ‏على عمليات السحب والتحويل، قبل أن تسلب اليوم قيمتها الفعلية‎.

وقف التداول بالدولار‎
على أي حال، إن أهداف التعميم واضحة، لأنه يأتي بعد سلسلة تعاميم لا يمكن تفسيرها سوى أن مصرف لبنان ‏يتّجه تدريجاً نحو تكريس القيود والضوابط الاستنسابية التي فرضتها المصارف على عمليات السحب والتحويل ‏وصولاً إلى منع التداول بالدولار. هذا الأمر واضح في التعميم 13215 الذي ينص على إغلاق الحسابات التي لا ‏تفوق 5 ملايين ليرة أو 3 آلاف دولار مقابل تسديدها بسعر السوق، أي تحويل الليرات إلى دولارات بسعر ‏مصرف لبنان ثم تحويلها مجدداً إلى ليرات بسعر السوق الذي حدّده مصرف لبنان بالتنسيق مع المصارف ‏والصرافين بقيمة 2600 ليرة للدولار الواحد‎.

وينسجم هذا الامر مع تعميم يتعلق بمنع المؤسسات المالية غير المصرفية التي تقوم بعمليات تحويل الأموال عبر ‏الوسائل الالكترونية من تسديد قيمة التحويلات الواردة بالعملة الأجنبية، بل عليها أن تدفعها بالليرة اللبنانية بسعر ‏السوق (المحدّد بقيمة 2600 ليرة) وعليها أن تبيع الدولارات لمصرف لبنان. سلامة يسلب دولارات المغتربين ‏أيضاً، أي تلك الدولارات الطازجة التي أتيح للمصارف تسديدها للزبائن نقداً أو تحويلها إلى الخارج مقابل ‏إعفاءات من الاحتياط الالزامي (كما ورد في التعميم الأساسي الرقم 150 الصادر في 9 نيسان 2020). يثير هذا ‏الأمر تساؤلاً واسعاً: فهل إذا كانت الرواتب التي يتقاضاها الأجراء بالدولار بات لزاماً عليهم أن يتقاضوها بالليرة ‏اللبنانية حتى لو كانت عبارة عن تحويلات خارجية طازجة؟ كيف يكون هناك تمييز بين مودع وآخر؟ المودعون ‏الذين صرفت أموالهم وتبخّرت سيعاقبون، فيما المودعون الذين يجلبون أموالاً طازجة سيكونون مميزين؟ على أي ‏أساس وبأي معايير؟‎

من يدفع ثمن شطب الخسائر؟‎
أهم ما يكمن في التعميم الأخير والتعاميم السابقة أن مصرف لبنان سيقوم بأمرين‎:

‎- ‎في جهة الأصول في ميزانيته، حيث توجد الاحتياطيات بالعملات الأجنبية المتآكلة والتي لم يبق منها سوى 22 ‏مليار دولار، فإن استحواذ مصرف لبنان على دولارات المغتربين سيتيح له تغذية هذه الأصول وزيادتها للتخفيف ‏من حدّة الضغوط التي يتعرض لها بسبب الخسائر المتراكمة البالغة 42.8 مليار دولار‎.

‎- ‎في جهة المطلوبات/ الالتزامات، فإن المسألة مبنية على أن ودائع الناس بالدولار هي موظّفة لدى مصرف لبنان ‏وهي تبخّرت. لذا، فإن كل دولار تسدّده المصارف للمودعين بالليرة اللبنانية، يتيح لمصرف لبنان أن يشطب ‏دولاراً من خسائره المتراكمة بالعملات الأجنبية. وفي المقابل، سيدفع مصرف لبنان ثمن هذا الشطب، عبر طبع ‏المزيد من الليرات لإمداد المصارف بسيولة تكفي لتسديد الودائع. المودع، سيدفع الثمن مباشرة عبر “هيركات” ‏مباشر على وديعته يمثّل الفرق بين سعر الصرف السوقي المحدّد من مصرف لبنان بقيمة 2600 ليرة، وسعر ‏الصرف الفعلي في السوق البالغ 3250 ليرة. نسبة الهيركات ستبلغ 20% وربما تزداد مع الوقت، بما أن الليرات ‏المسحوبة من المصارف ستشكّل طلباً إضافياً على الدولار، ما يؤدي إلى ارتفاع إضافي في سعر الصرف‎.‎

كذلك سيدفع المستهلك الثمن بشكل غير مباشر بسبب التضخّم الذي سينتج عن الليرات الإضافية التي يطبعها ‏مصرف لبنان ويضخّها في السوق للتداول. أبرز مثال على هذا التضخم، أنه في كانون الثاني 2019 كانت الكتلة ‏النقدية المتداولة بالليرة اللبنانية 5561 مليار ليرة، ثم اتّسعت لتبلغ 15163 مليار ليرة في 15 نيسان 2020. خلال ‏أقلّ من 16 شهراً تضاعفت هذه الكتلة بمقدار 2.7، وازدادت بقيمة 9600 مليار ليرة. في المقابل، ارتفع سعر ‏صرف الدولار مقابل الليرة من 1507.5 ليرات وسطياً لكل دولار إلى 3250 ليرة، أي إن الفجوة بين سعر ‏الصرف المعمول به لدى مصرف لبنان والمصارف، وبين السعر الفعلي في السوق تفوق 115%. هذا الأمر ليس ‏تفصيلاً في بلد تبلغ خسائره 83 مليار دولار ويطالب فيه رئيس جمعية المصارف ببيع أملاك الدولة لتوزيعها ‏على المصارف وكبار المودعين. هذا هو لبّ معركة توزيع الخسائر التي يجري تحميلها لمداخيل الناس وقدراتهم ‏الشرائية. نسبة التضخّم التي تتوقعها وزارة المال ستصل إلى 27% في نهاية 2020. إنه رقم قياسي يعني المزيد ‏من الخسائر التي تتحمّلها الفئات الأضعف في المجتمع‎.‎
‎ ‎

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *